15 Jun 2009

لا دفاعا عن الطائفية لكن ...

لا دفاعا عن الطائفية لكن ...
كارل شرو
انتهت عملية الانتخابات اللبنانية و آلت إلى ما آلت إليه. أعادت تثبيت ميزان القوى نفسه الذي ساد خلال الأعوام الأربعة الماضية و أنهت الكثير من التكهنات التي بان عدم صوابها. قال الناخبون اللبنانيون كلمتهم بشكل حاسم لا مجال لسوء تأويله، رغم أن هذا لا يمنع الكثيرين من محاولة طي الواقع كي يلاءم تطلعاتهم. بالأمس حاولوا تصوير الغالبية النيابية على أنها غالبية وهمية واليوم بدا الكلام عن غالبية شعبية لا تتساوى مع الغالبية النيابية. وسائل التذاكي على نتائج الانتخاب كثيرة في لبنان يحركها عدم احترام الديمقراطية وعدم ممارستها كأساس للسياسة.
برغم ذلك فان عملية الانتخابات نفسها، بغض النظر عن الانتهاكات التي لا تخلو منها أية انتخابات لبنانية، عبرت فعلا عن الإرادة الشعبية على تعدد أهوائها ومشاربها. قال الكثيرون بان الفائز الأكبر بهذه الانتخابات هو منطق الطوائف التي عادت لتحكم سيطرتها على السياسة اللبنانية، وهذا استنتاج دقيق عموما. أثبتت قيادات الطوائف اللبنانية على أنها الأقدر على مخاطبة جماهيرها و تحفيزها على المشاركة اقتراعا و تنظيما في انتخابات خالها البعض مصيرية.
عّبرت عناوين الصحف اللبنانية عموما عن هذا التقييم، رأت الإخبار إنها "الطوائف إن حَكَت" و اتفقت معظم الصحف الأخرى معها. غير إن ما فات الكثيرين ولم يلتفت إليه أي من السياسيين أو الصحافيين إن هذه المعادلة الطائفية لم تشكل استمرارا لنمط الطائفية الذي ساد في لبنان لعقود بل إنها أنتجت بطريقة جديدة يمكن الجزم بأنها تجاري مسار اشتباك الاجتماع و السياسة الذي تبلور منذ نهاية الحرب الباردة عالميا. تميز هذا المسار عموما بانهيار القيم الكونية في السياسة و الفلسفة على حد سواء و تراجع الصراع الطبقي لصالح منطق الخصوصيات الثقافية و مطالبها السياسية و الاجتماعية. كان اليسار عموما هو الخاسر الأكبر في هذه المعادلة فخسر جمهوره وانتقل الكثيرون من كوادره إلى صفوف مجموعات عرقية أو ثقافية و ساد منطق التعدد الثقافي على منطق المواطنة و المساواة.
صاحب عنوان "الطوائف إن حَكَت" نفسه إبراهيم الأمين خرج من صفوف اليسار اللبناني إلى صفوف محبذي حزب الله وانتقل معه الكثيرون من شيعة اليسار اللبناني الذين شكلوا نواة الحزب الذي نعرفه اليوم. شكل هؤلاء جزء من حركة انتقال اكبر شهدت عودة الكثير من اليساريين إلى صفوف طوائفهم وان تفاوت مدى التزامهم بالتوجه السياسي العام لهذه الطوائف. تكمن المفارقة بان ما ارتضاه هؤلاء خيارا سياسيا لأنفسهم عابوه لدى الآخرين و اعتبروه ضربا من المذهبية و الانقسام. الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون من يساريي الطوائف هو أن الانحراف عن الخط العلماني الصرف يسلبهم حق انتقاد الطائفية و ممارسيها، فهم قد أصبحوا جزا أساسيا من التركيبة الطائفية بمعناها الأوسع.
حاول البعض رغم ذلك الاعتراض على بعض نتائج الانتخابات و ما سبقها بوصفها شحنا مذهبيا و تكريسا للانقسام. ومن بدائع اللغة و التفكير على هذا النمط الحديث عن الطائفية بوصفها خلل نفسي مثل ما تعبر عبارة "محي الطائفية من النفوس" الذي يكثر استعمالها في لبنان. هذه سذاجة لا مكان لها في السياسة، فالسياسي أو المعلق ليس طبيبا نفسيا ليأخذ على عاتقه مسؤولية معالجة الشعب اللبناني من إمراضه. تعبر هذه النظرة عن ازدراء هؤلاء لجمهور السياسة في لبنان و عدم مخاطبته كجمهور يمكنه ممارسة خيارات سياسية واعية. جل ما يمكن لهذا الجمهور فعله هو الانتقاء بين الخيارات السياسية المطروحة عليه، وكلنا نعرف قلة المعروض وفقر تطلعات العارضين.
ما لا يفهمه الكثير من أصحاب اللغة و السياسة في لبنان إن الطائفية شيء و التعصب شيء أخر. يوجد التعصب حتى في أكثر المجتمعات علمانية لكن هذا لا علاقة له بالسياسة. الطائفية تعني تنظيما سياسيا-اجتماعيا يتركب على صورة المجموعات التي تشكل هذا المجتمع و يوفر لها وسيلة لتنظيم علاقاتها. بهذا المعنى فان معظم اللبنانيين و معظم ساستهم و معلقيهم هم من محبذي هذا النظام الطائفي الذي ارتضوه حكما و حاكما على أحوالهم. وبعد لا يمكن لبعضهم انتقاد البعض الأخر إن غالوا في التحمس لهذا النظام بالدرجة التي أنتجت التحاما كليا بين الطوائف و قياداتها في الانتخابات الأخيرة. هذه النهاية المنطقية لهذا النظام، و جل ما فعله اللبنانيون إنهم ساروا بهذا المطاف إلى مداه الأقصى. فقد الذين جاروا هذا النظام قدرة الاعتراض عليه لحظة قبولهم بيه و تخليهم عن العلمانية مسارا مخالفا و مغايرا لنهج الطائفية.
هذا سبب من أسباب تضعضع اليسار و العلمانية في لبنان اليوم لكنه ليس حكرا على اللبنانيين. يفوت الكثير من ديمقراطيي اليسار في لبنان إن النظام الطائفي الذين يشكونه هو وجه أخر للتعددية الثقافية التي يمتدحوها لدى المجتمعات الغربية، يتميز عنها فقط بترسخ جذوره السياسية و القانونية. هواة التعددية هؤلاء يخالون التعددية نفسها أمر جيدا و يغالون بامتداحها. لكن التعددية الثقافية تختلف كليا عن تعدد الآراء و الوجهات السياسية، فالأولى يمكن لها أن تنتج مجتمعا راكدا تنعدم فيه العلاقات بين هذه المجموعات أما تعدد الآراء و التعبير عنها يتيح للمجتمع إمكانية التغيير و التقدم و خروج الأفراد عن إرادة مجموعاتهم.
المنحى التي تتخذه الطائفية في لبنان اليوم هو محاكاة أفكار التعددية في الغرب و الاحتفال بالخصوصيات الثقافية لطوائف الاجتماع اللبناني و المغالاة بالدفاع عن مصالحها و الخوف من تهديدات وجودية لها تتراءى في مخيلة البعض كلما خرج التخاطب بين هذه الطوائف عن حدود التهذيب المعهود. لكن الحقيقة انه ليس لدى أية من الطوائف اللبنانية الكبرى اليوم مشروع هيمنة يشبه المشاريع السابقة الذي كان أبرزها المشروع الماروني. تبّدى هذا عموما بعد الانتخابات عندما عمد معظم الأطراف إلى خفض وتيرة التخاطب و المطالب وعادوا عموما إلى البحث عن صيغة لمشاركة الحكم بشروط ترضي جميع الإطراف. هذه حدود السياسة في الصيغة الجديدة لطائفية النظام اللبناني التي قد تتذبذب على وقع متغيرات دولية و إقليمية لكنها ستبقى ضمن هذا الإطار، فهذه حدود مخيلة الطوائف بحلتها الجديدة ما بعد الحداثية.
هل علينا أن نرتضي بهذا الواقع بوصفه تعبيرا عن إرادة الشعب اللبناني و خلاصة طموحاته ؟ هذا تفكير انهزامي قبوله يعني قبول سلطة المنطق الطائفي التي تبقى علته الأساسية تقييده لدينامكية المجتمع و فرص تقدمه كما رأينا و سنرى. بداية علينا أن نفقه أن الطائفية هي مشكلة سياسية لا نفسية و مقاومتها تكون بالسياسة و الأفكار الجديدة لا بعلم النفس. ثم علينا أن نعي أن القبول بمنطقها يعني التخلي عن موقع نحن بأشد الحاجة إليه هو موقع العلمانية بوصفها جزا من مشروع سياسي لا صفة شخصية مستحبة. عسى أن يكون مأزق النظام الطائفي عتبتنا إلى السياسة.

1 comment:

  1. قد يعجبك كتاب
    Citizenship and Ethnic Conflict: Challenging the Nation-State
    الصادر في عام ٢٠٠٦، فهو مجموعة من الدراسات العلمية عن الطائفية والمواطنة في عدة دول في أوروبا والشرق الأوسط بما فيها لبنان. وأقدم لك تلخيصاً للكتاب

    ReplyDelete

Karl reMarks is a blog about Middle East politics and culture with a healthy dose of satire.

Note: only a member of this blog may post a comment.